أي هوية تلك التي اكتسبها حي بن يقظان بطل رواية ابن طفيل والتي سُمِّيت على اسم بطلها؟ تروي الحكاية عن مولود عاش وحيداً في جزيرة نائية بعد أن وضعته أمه، بعد ولادته مباشرة، ولظروف قاهرة؛ في تابوت ورمته في البحر ليأخذه الموج لهذه الجزيرة النائية، وهناك تعثر عليه إحدى الظباء بعد أن سمعت صراخه، وتنقذه من الموت. بالمصادفة كانت هذه الظبية قد فقدت للتو وليدها، فقامت بإرضاعه ورعايته إلى أن ماتت. هناك رواية أخرى لنشأة حي بن يقظان هو وجوده على الجزيرة، بدون أب أو أم، بمعنى آخر بدون مرجع سابق عليه، كما وُجد آدم على الأرض كبداية للجنس البشري.
ربما الهوية في هذه الحالة، حال غياب الوطن والحدود والجماعة والثقافة المشتركة والضغوط الخارجية والفوارق الطبقية والعنصرية والاستعمار والعصبية، وكل مقومات تكوين الهوية في العصور الحديثة؛ تشكلت من محصول الذاكرات والحيوات التي اقتسمت حياة وذاكرة حي بن يقظان. ذاكرة الأم التي ولدته ولم يرها بعد ذلك، بالإضافة لذاكرة وحياة الظبية التي التقطته وعاش معها. الأم الغائبة والظبية كوّنا في البداية المجتمع الصغير أو "الآخر" الذي شكل هوية حي بن يقظان.
هذا النوع الفريد من الهويات الذي يعيش على القليل، ويتغذى على التأمل، وعلى قدر من العزلة تتيح له اكتشاف هذه الهوية من الداخل وليس من الخارج. تلك الهوية التي تحاول أن تكتشف جوانب وصور وجودها داخل عزلة مؤقتة حتى ترى أصالة ومادة هذا الوجود والتعرف على خريطة تكوينه واستحقاقاته. بل والتعرف على كل ما يحيط به، بدون مرجع معرفي سابق، كأنه بهذا الجهد التأملي يمنح الهوية لنفسه.
في رحلة عزلته وتأمله توصل حي بن يقظان لمعرفة الله، بدون أن يسمِّيه، وبدون المرور على أي دين يقود خطوات هذه المعرفة لهذا الكائن الأعلى. لقد بدأ في بناء هويته بالتأمل، وسط سياق حياتي جديد تماماً، يقوم على المعرفة الباطنية والتأمل والحدس والتجربة، فلم تكن هناك أية وسيلة لنقل الخبرة المباشرة من الظبية الأم التي لا تتكلم ولا تحكي لطفلها كما هي عادة الأمهات في نقل الخبرة عبر الحكايات، سوى لقائهما ووجودهما سوية وسط هذه الجزيرة المعزولة، ونظرة كل منهما للآخر.
حتى سن متأخرة جداً كان حي بن يقظان لايعرف الكلام، ولايعرف اللغة، ولايعرف أيضاً بأنه إنسان. كانت اللغة الوحيدة التي يعرفها هي الصراخ، هذا الصوت الذي أنقذه من الموت. وبعدها بدأ خطوات التعلم كشيء يُقذف داخل النفس مباشرة، ومعها كانت تتسع حدود هذه النفس التي تتردد داخلها أصداء الأصوات المكتومة واللغة المقيدة واندهاشات وفرحة التعلم. كانت الهوية تتشكل عبر ترددات الأصداء المحبوسة في الصدر، تنتظر لحظة الكلام.
ربما لو تغيرت رحلة حي بن يقظان، ولم تتوصل لاكتشاف الله كما أراد لها مؤلفها ابن طفيل؟ ربما في هذه الحالة ستتكون لبطلها ذاكرة تنتمي تماماً للعدم، أو هوية تنتمي للعدم، لأبوين لايعرفهما، ولكون لا يعرف فيه موقعاً، وسيصبح عندها غير قادر على بناء ما فاته من أحداث، وهو جزء هام من السياق الذي يبني الهوية ويطمئنها، أن تعرف هذه الهوية موقعها من سلسلة الوجود، وتكتشف فضاء الماضي. ربما في هذه الحالة الاستثنائية سيكتسب هويته بأن يخلق صراعاً ما لينقذه من العدم وخواء ذاكرته من ماض لم يعشه، وسيعمل ضد ذاكرته وضد ما تعلمه، وسيبنى هذا الماضي المفقود بالخيال كما يفعل الروائي.
عاش حي بن يقظان في رعاية ظبية، كما عاش طرزان في رعاية قردة. تتجسد في حياتيهما فكرة الاتحاد بين عناصر الكون، بين الإنسان والحيوان والطبيعة. ربما عوض هذا الاتحاد غياب الجماعة وخفف من حدة العزلة. هذا الاتحاد كان بمثابة المكافأة عن محدودية الحياة، التي عاشها كلٌّ من حي بن يقظان وطرزان، وقلة مفرداتها. الاتحاد بين الإنسان والحيوان، هذه الوحدة الأصيلة أو الهوية الأصيلة قبل أن تتشكل الجماعات والشعوب والحدود. ردت هذه العلاقة الاعتبار للحيوان بوضعه في مستوى القداسة، كطوطم أو كمعبود قديم. فإن كان حي بن يقظان وصل لمعرفة لله أو الكائن الأعلى بدون دين محدد، دليلاً على شمولية فكرة الإيمان، إلا أنه أحيا عبادة قديمة مقنّعة بقناع الأنثى أو الأم، وهي رمز من الرموز المقدسة في رحلة الإنسان على الأرض.
كانت الأرض عندما طُرد آدم من الجنة تشبه الجزيرة المعزولة، وهويته تم اكتسابها من ماضيه، من ذاكرة الجنة التي طُرد منها. تلك الذاكرة التي تحوي نعيم الحياة وشقائها عندما تم طرده. عاش آدم على الأرض بذاكرة الذنب الذي أخرجه من الجنة، وعشنا من بعده نتوارث هذا الذنب لنوطد علاقتنا ونؤكد عودتنا لهذه الجنة من جديد. الذنب يشكل أحد عناصر هويتنا، ومكان اللقاء للتوبة. ربما انتماء آدم لحواء، أو أن الحب هو الذي منحه هويته الجديدة، وقلل من وحشة تلك الجزيرة المعزولة وحِدة الذنب الذي يحمله.
ربما أيضا إحساس آدم بالذنب هو الذي ولَّد لديه هذا الشعور بالدونية، والذي استنسخته الأديان، ومن بعدها الاستعمار؛ ليؤكد سيطرته على جغرافيا شعوب يتملكها شعور حاد بالذنب، ويقوم بطمس هويتها. أو أن الشعور بالذنب يفرض جغرافية نفسية يسهل غزوها، والسيطرة عليها. يفرض منظومة قيم قابلة للاختراق لأن الذنب، بهشاشته، يقع في مكان القلب من هذه الهوية.
في البداية يوهب حصاد الدونية الوليدة للإله، ثم لمن يتقلد مكانه أو يحاول أن يفرض إحدى صفاته :القوة.
لقد تدخلت القوة، أو الشكل الحديث لها متمثلاً في الاستعمار، لتفصل بين عناصر أي هوية، لتميعها. ربما الاستعمار أحد أسباب أمراض الهوية والتعصب في العصور القديمة والحديثة. وبسببه تقلصت الهوية وانكمشت إلى مكان محدد له أسلاك شائكة في انتظار لحظة الهجوم عليها.
الشيء المشترك بين هذه الهويات الفريدة كون أصحابها اكتسبوا قدرتهم على التأمل والاستنتاج مبكراً. لقد ولدوا كباراً ناضجين، كما ولد المسيح وأخذ يدافع عن أمه وهو مازال في المهد. لقد عاشوا جميعاً في حضن معجزة، أو لعبت الصدفة دوراً أساسياً في حياتهم وأعادوا نهجاً كان منسياً في الحياة كعلاقتهم بالحيوان. فهم موجودون لإثبات أو إضافة طريقة جديدة في الحياة أو إحياء طريقة قديمة. لذا هم أقرب للأنبياء، ولكنهم أنبياء بدون تابعين أو مجتمع. أيضا هم يعيشون، رحلتهم الهامة، في مكان منعزل، مثل المختبر، في جزيرة خالية ليتم اكتشاف الهوية من الداخل، وليس انعكاساً لعين تأتي من الخارج. فهم لصغر سنهم لم تُستعمر مخيلتهم بعد بصور سلبية سابقة عن أنفسهم وعن حياتهم. لذا هم أحرار في تكوين صورة حقيقية وبريئة، فالصور المسبقة الثابتة أحد أسباب تثبيط المخيلة التي تشارك في بناء الهوية.
أيضا ترتبط هذه الهويات الفريدة بالأنثى، الأم، الإلهة، التي تتجسد هنا على شكل حيوان. بوصف الأنوثة أو الأمومة، الراعية للحياة؛ هوية أصيلة بذاتها لا تحتاج لاكتشاف. الالتصاق بها هوية في حد ذاته. الأمومة هي الصفة الأكثر أصالة وهي سبب استمرار الحياة لهذه الهويات الوليدة أو المتسائلة أو الباحثة. ربما هذا الارتباط لا يعيد فقط عبق ديانة قديمة كانت تعبد المرأة في صورة الحيوان، أو تعبد الحيوان في صورة المرأة؛ بل أيضا يتضمن إنصافاً للمرأة التي كتب عنها ابن طفيل.
نحن نتذكر هويتنا وندافع عنها عندما تتحول إلى مأزق أو سؤال غامض أو غير واضح يجب الإجابة عليه أو الدفاع عنه. عندما تكون هويتنا مُستنفرة وفي محل نزاع، وغير محسوم ملكيتها لمن: لنا أم للتاريخ أم لصور غير حقيقية كوّناها عن أنفسنا بدون دراية وتبادلناها فيما بيننا كما كنا نتبادل طوابع البريد؟ أحياناً في لحظات معينة، أشعر بأن هناك ما يضغط على جسمي، بشيء مُستنفر بداخلي، بخدش غير مرئي. في تلك اللحظة، أو اللحظات المكررة في حياتي، أشعر عندها بأن الهوية التي أتخيلها دوماً شيئاً سائلاً تحولت إلى قالب مجمد توقف فجأة عن السريان. عندها تأخذ الهوية شكل الكرامة أو الأنانية أو الغيرة الشخصية.
أحد مآزق الهوية هو أنها لها مظلة جماعية تظهر من خلالها، بالرغم من أنها لا تُمتحن ولا تُكتشف إلا من خلال الفرد.